سلف
أن نشرت صحبة الصديق التهامي بن عدو مقالا بمجلة المزارع المغربي، العدد الثالث
عشر، مارس 2002، حول «الساقية الكرسية الأزمة والحلول والآفاق». ولا أحب أن أقول
إن المقال فقد راهنيته، بل تبين أنه في حاجة إلى المراجعة، ليتلاءم والتصور
الحالي، بعد أن نبشت بعض الوقت في المجالية الثقافية. وكثيرا ما أشرت إلى أن
مجموعة الكرس القروية تختزن فصولا ثقافية تفيد في المضي قدما في ملامسة الأعراف
بالجنوب الشرقي المغربي. لذلك سأعود لقراءة المقال من جديد ودعمه بالمزيد من
الإضافات، وتمحيصحه إن اقتضى الأمر ذلك.
إن
ما هو مستطر في المقال، ويتوجب البدء به، أن جبال الأطلس الكبير الشرقي، وجبال
الأطلس الكبير الأوسط، خزان مهم للماء بالجنوب الشرقي المغربي. «لكن التدهور
البيئي، بفعل التدخل غير المسؤول للإنسان، أقحم المنطقة، عنوة، في النطاق الصحراوي
الجاف. والغريب في الأمر، أن السنين الأخيرة حملت معها الجفاف، مما أثر على مسار
الصراع» بجبال الأطلس الكبير الشرقي، ونتج عن ذلك «سوء تدبير شأن الماء، وتغيرت
الأعراف القبلية، ولبس المشكل اللباس العرقي في كثير من المواقع نذكر منها إملشيل،
وكرامة، وقرى الكرس».
وحينما
يختل تدبير الماء ويسوء، فلا معنى للحديث عن أي علاقة متوازنة بين الإنسان والأرض.
لذلك حسن «النظر في شأن الماء بشكل عقلاني، بعيدا عن الحسابات الضيقة، وحفاظا على
التوازن بين الإنسان والأرض رجاء في تحقيق تنمية مستديمة في البنيات الهشة، يمن أن
تقلل من الهجرة القروية وما ينجر عنها من أهوال». وحينما نقف عند مراد التنمية،
نسائل أنفسنا أن كنا نتوافر على «إرادة سياسية قوية تقطع مع العبث في تدبير شأن
الماء»، وتؤسس السياسة على الحق بدل الحاجة.
نأخذ
مجموعة قرى الكرس، أو الكرس بما هو عنوان لتجمع قروي، نشأ تحت أهوال، ربما يختزنها
تاريخ المغرب منذ تأسيس مدينة «كرس لوين» محطة لخوارج بني مدرار. ولسنا في حاجة
إلى البحث عن أساس التجانس في قرى الكرس، فلا شك أن ويلات تاريخ المغرب بجنبات
المسار التجاري سجلماسة فاس فرضت تجانسا وظيفيا، ولو كان معطى غير مرغوب فيه.
وحينما ننسب كلمة الكرس «Guers» إلى حاضرة «كرس لوين»، وكذلك حصل بالفعل، فإننا
نستحضر تعددا عشائريا وثقافيا، ونستحضر أن مراد تأسيس المدينة لم يكن لغاية ممارسة
الزراعة، وقتها، بل لضمان أمن النشاط التجاري. ونجزم أن جل الدول التي تعاقبت على
حكم المغرب، مدعوة لإرساء حراستها بحاضرة «كرس لوين»، عدا الموحدين الذي فضلوا
تدمير الحاضرة بكاملها لأسباب لا يفيدنا
البحث عنها، ونكتفي بأن المدينة ذكرها ابن الخطيب وأشار إليها ليون الإفريقي في
كتابها «وصف أفريقيا».
حصل
بعد تراجع تجارة القوافل وتضرر مدينة «كرس لوين» من التعرية النهرية، أن نشأ تجمع
قروي بالضفة اليمنى لواد زيز، جنوب شرق مركز الريش، ذاك هو «الكرس» الحقيقي.
وبالبيان، يتكون «الكرس» من القرى: «أمالو،
اللحاين، أيت الفقيه، اصدوقا». وإلى جانب «الكرس» الحقيقي نشأ «الكرس» الهيدرولوجي،
وهو «الكرس» الإداري. كيف نشأ «الكرس» الهيدرولوجي؟ نشأت هذه المجموعة في وقت متأخر من
استقرار أيت يزدك بالمنطقة. ففي غرب الكرس الحقيقي تتموضع ثلاث قرى من قبيلة أيت
يزدك، وهي «أيت تيقرت، خرزوزة، وأيت عودى». فإذا نظرنا إلى المجموعة القروية، من
حيث كونُها، تضاهي الرقم السحري 7، « أيت تيقرت، خرزوزة، وأيت عودى، أمالو،
اللحاين، أيت الفقيه، اصدوقا»، نلفى أن التجانس الثقافي قائم، مع استحضار أن سكان
أيت يسمور، هم في الأصل سكان « أيت تيقرت». ذلك أن ثلة من التجمعات القروية
المتجانسة ترسو وتستقيم على العدد 7 كنحو تولال، وفجيج، والسفالات، وأيت سنان، والخنك
العلوي، وتاماسين، وليقس ما لم يقل. ولا يفيد قولنا أن كل التجمعات السباعية
متجانسة عرقيا، ذلك أنها –تجمعات- أمسى تجانسها أمر يراد، إذ هي تجمعات نشأت طوعا لغاية
الدفاع الذاتي، ولغاية إنشاء مجال متكامل، وبالتالي بات من الضروري أن تحتضن
الأقليات العرقية. وإذا رجعنا إلى إحصاء سلطات الحماية الفرنسية لسنة 1928، يتبين
ما يلي:
إن
الساقية الكرسية التي يقع سدها بين الريش
و«تاحينوست»، تمتد على الضفة اليمنى لواد زيز لتغذي ممتلكات ثمانية (8) قرى زراعية،
مساحتها 222 هكتارا، بما هي مجال القرى المزروع من لدن سكانها، فضلا عن سكان «أيت
يسمور».
|
![]() |
المساحة
بالحبل
|
حصة
الري
بالأيام
|
![]() |
|||
10
|
أيت
تيقرت
|
624
|
غير
مقيدة
|
02
|
خرزوزا
|
850
|
غير
مقيدة
|
03
|
أيت
عودا
|
450
|
غير
مقيدة
|
04.
|
أمالو
|
800
|
5،1
|
05
|
اللحاين
|
1250
|
5،2
|
06
|
أيت
الفقيه
|
1100
|
1
|
07
|
اصدوقة
|
800
|
1
|
08
|
أيت
يسمور
|
300
|
1
|
المجموع
|
6174
|
7
|
ينتمي سكان القرى العليا، كما سلفت الإشارة إلى
ذلك، وهم «أيت تيقرت»، و«خرزوز»، و«أيت عودا»، حسب الوثيقة الفرنسية المعتمدة، إلى
قبيلة أيت يزدك، بكاف معطشة. لذلك يستفيدون من الماء بدون أي مجهود أو تعاقد (prestation).
وأما سكان القصور السفلى التي تؤوي «القبائل»، أي: الأقليات من الشرفاء،
والحراطين، وعناصر أخرى، حسب الوثيقة، فهم منقطعون لأشغال الساقية، وشراء الأرض التي ستمر منه
الساقية إن حصل انجرافها. وأشارت الوثيقة الفرنسية إلى سكان القصور الأربعة السفلى
أنهم كانوا يملكون ساقية لهم، ولما دفعتهم الضرورة لاعتماد الساقية التي تنبع من
السد المقابل للريش، ظلوا يستفيدون من فائض مياه القصور العليا. وأشارت الوثيقة ، فضلا عن ذلك، أن قصر «اصدوقا» مندرس، لذلك توزع سكانه على
قصور أيت تفركان الممتدة على الضفة اليسرى لواد زيز. ويجري على أيت يسمور، بما هم
سكان «أيت تيقرت»، من قبل، العرف الحاصل هناك، فلا يشاركون في أشغال الساقية، ولا يؤدون ثمن شراء الأرض، كلما دعت الضرورة لتغيير مسارها عقب الانجراف الذي يقع
عليها. ويمتع العرف بالتفضيل كل من أقدم من سكان القصور العليا على شراء أرض
زراعية ببساط مزارع القصور السفلى، أي: إنهم لا يشاركون في أشغال الساقية،
ولايؤدون واجب الخسائر التي يسببها انجراف القناة، لكنهم مدعوون لاحترام دورهم في
السقي وفق يومية الدورة الزمانية التي وضعتها القصور السفلى. وإن للاستفادة من
المياه في فصل الصيف شرطا، خاصا بفلاحي سكان القصور السفلى، كنحو ألا يكون الحقل
قد زُرع قمحا أو شعيرا في فصل الشتاء، عدا الحقول المخصصة لنبتة الفصة. ويتعلق هذا
الشرط بوجوب احترام الدورة الزراعية، بتخصيص حقول الفول واللفت والحقول الراقدة
لزراعة الذرة. وأشارت الوثيقة المعتمدة إلى عقد، غير مؤرخ، مفاده أن الجماعة
السلالية لقصر أيت الفقيه، واصدوقا أشهدوا لدى السلطات أن لسكان قصر اللحاين حقا
في مياه الساقية الكرسية يداني يومين ونصف، ضمنه ثلاث ليال، وأن لسكان أمالو يوما
ونصف اليوم، وضمن حصتهم ليلة واحدة. وتمتد حصة سكان قصر «أمالو» من طلوع شمس يوم
الأحد، إلى موعد ظهر يوم الإثنين، وحصة سكان اللحاين أريد لها أن تحل يوم الإثنين
ابتداء من موعد الظهر إلى مطلع شمس يوم الخميس. وأما سكان قصر أيت الفقيه فحصتهم
في الري تمتد من طلوع شمس يوم الخميس إلى طلوع شمس يوم الجمعة، وتمتد حصة أيت يسمور
إلى طلوع شمس يوم السبت، ثم تحل حصة سكان قصر اصدوقة المندرس، وتنتهي الدورة
الزمانية لفائدة القصور السفلى، بعد أن غطت أسبوعا كاملا.
«يعود الصراع حول الماء بقرى «الكرس» إلى القرن
التاسع عشر»، أي: إلى يوم تراجعت فيه تجارة القوافل «التي لعبت فيها حاضرة الكرس
دورا غير منكور بفعل موقعها الإستراتيجي في المحور التجاري بين سجلماسة وفاس».
وعقب تراجع المحور وجدت أيت يزدك نفسها مجبرة على العيش على موارد الأرض ازراعية،
فما كان لها، بعد أن نضب مورد الخفر و«الزطاطة» إلا السيطرة على موارد الماء،
والأرض الزراعية الخصبة، وليس هناك ما يمنعها، يوم علا شأنها في عهد الشيخ إبراهيم
يسمور اليزدكي من استعباد الأقليات العرقية. هنالك وجب تمحيص فرضيتين اثنثين:
الفرضية الأولى تفيد أن
حاضرة الكرس كانت أقامت الضيعات الزراعية بالضفة اليسرى لواد زيز، ولها ساقية
تقتبس ماءها قرب فج «توليشت». وتمتد الساقية بجنوبي جبل «أسامر ن تصالحت»، متجهة
نحو الشرق. ولا يزال آثار الاستغلال الزراعي باديا بمحيط منزه الغالية الآثاري،
ولا تزال مقابر حاضرة «كرس لوين» بارزة بالضفة اليسرى لواد زيز. وحصل أن غير واد
زيز مجراه، وبات سريره ممددا بشمال المدينة، بل إنه فصل المدينة عن مجالها المعمر
بالقبور وبالحقول الزراعية. وبموازاة ذلك، تعمق مجرى رافد زاوية سيدي حمزة بفعل
التعرية النهرية فكان من المستحيل إنشاء سد مرتفع، فلا حل إلا التفاوض مع سكان القرى
العليا « أيت تيقرت، خرزوزة،
وأيت عودى» لتمديد ساقيتها أن تروي ضيعات سكان الكرس، من
تحتُ، بالضفة اليمنى لواد زيز، فاستجابت مقابل شروط تضمنها العرف.
الفرضية الثانية أن أيت
يزدك « استعبدت الأقليات العرقية، وسيطرت على الخصب من الأرض وعلى الحي من منابع
الماء وعلى حصص الأسد في دورات السقي الزمانية، وفي بعض الأحيان تستفيد خارج
التناوب كما حصل في الساقية «الكرسية»، حيث نلفى العشائر اليزدكية من علُ تستفيد
من الساقية بدون المشاركة في تشييد السد ومد القنوات والصيانة المستمرة عقب كل
فيضان واد زيز». وتأسيسا على ذلك فرضت في بنود عرف الري ما شاءت وما كان لها
ملائما.
وكيفما كانت حقيقة
الأمور، أن تكون بمثابة علاقة القوي والضعيف، والغالب والمغلوب، فإن العرف بات
معمولا به أمدا بعيدا إلى حدود سنة 1979، «حيث شاءت الصدف أن ينسف فيضان واد زيز
سد الساقية، ويجرف القناة عن آخرها، فأصبح من الصعب على الأقليات العرقية»، وهي
على سبيل التذكير، سكان القرى، «
أمالو، اللحاين، أيت الفقيه، اصدوقا»، أي: تلك «التي فرض عليها العرف القيام
بأشغال بناء الساقية، إعادة الساقية إلى وضعها الطبيعي. وبتعبير آخر طالبت
الأقليات بالمساواة في الحقوق والواجبات. لكن سكان قرى أيت يزدك، وبدعم من السلطة
رفضت مطالب الأقليات»، وتشبثت بإعمال العرف الساف ذكره، «لذلك توقف نشاط الساقية
الكرسية». وحصل في سنة 1983، «بعد اعتقال عدة أشخاص ومحاكمتهم أن طالبوا، في
الواقع، بالمساواة في الحق في الولوج إلى الماء»، واتهموا «بتهمة الهجوم على
السلطة، ارتأى المجلس الإقليمي»، لإقليم الرشيدية، وقتها، و«بتنسيق مع المصالح
التقنية إصلاح الساقية... وبعد انتهاء الأشغال سنة 1985 اختفى العرف المنظم للسخرة
بضع سنين وأصبح توزيع الماء قائما على التناوب بين فلاحي القرى السبع جميعهم. لكن
للأسف، سرعان ما عاد القديم إلى قدمه». لكن التحولات التي صاحبت التغيرات المناخية
فرضت واقعا آخر. «فبعد سنة الماء ووفرته سنة 1996 تكررت السنوات العجاف»، ونتج
الوضعا التالي:«
-
كانت أزمة الجفاف قبل سنة 1996 مرحلية، قد تدو
شهرين على الأكثر (يوليوز وغشت)، وأصبحت تنتقل إلى قلب الموسم الفلاحي.
-
التربة في القرى العليا رملية وحصوية بشكل لا ينفعها أي تنظيم للماء، فهي
لا تطيق أي دورة زمانية يفوق أمدها أسبوعا كاملا.
-
الاستفادة الجزافية من الماء الذي تتمتع به القرى العليا فرض جفافا قسريا
على القرى السفلى التي نشأت منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تطالب بالمساواة
في توزيع المياه الفلاحية، وفي أشغال تجهيز الساقية.
-
امتداد الأزمة من أسفل الساقية إلى أعلاها، ومن أواخر الموسم الفلاحي إلى
قلبه، حول الأزمة من المطابة بالمساواة في توزيع المتوافر من مياه واد زيز إلى
البحث عن البديل في الموارد والإمكانيات. وفضل الذين الذين لم تقنعهم الهجرة إلى
المدينة الشروع في حفر الآبار واللجوء إلى تقنية الضخ».
إن إيجاد حل لمشكل الماء
في قرى اكرس يفتح آفاقا واسعة للتنمية القروية، وإنقاد المنطقة من من شبح الهجرة
والتصحر ومختلف مظاهر الفقر، خصوصا وأن البساط الذي تغذيه الساقية يحوي المغروسات
ومزروعات الفصة والخضراوات مبينة في الجدول التالي:
نوع الشجرة
|
العدد
|
الزيتون
|
21180
|
التفاح
|
4400
|
المشمش
|
720
|
مختلفات
|
1200
|
وفوق ذلك ساهم مرور الطريق الوطنية رقم 13 قرب
واحة كرس لوين الباردة في انتشار الزراعة التسويقية وتطورها، إذ تشكل « العمود
الفقري في دعم تعاونية حليب الريش التي تغذي جل أسواق الجنوب الشرقي بالحليب
ومشتقاته. وقطعت التعاونية أشواطا في زراعة الخضر التي تغزو بها أسواق المراكز
المجاورة».
لحسن أيت الفقيه